و كم من أمسية أمضيتها أصغي لصوته العميق و نبراته الهادئة الواثقة ، يتلوها بيتا تلو الآخر :
لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنْ يُقَال صَبَا """ لَصَرَخْتُ مِلْءَ السَّمْعِ وَاطرَبا
حَضَرَ الحَبيبُ وَغابَ حَاسِدُنا """ مِنْ بَعْدِ طُولِ تَحَجُب وَخَبا
فَاليَوْمَ أخْلَعُ فِيكَ يا أَمَلي """ ثَوْبَ الوَقارِ وَأطْرَحُ الرُّتَبا
ثم يسترسل قائلا :
بَدَا عَلَمٌ لِلحُبِّ يَمَّمْتُ نَحْوَهُ """ فَلَمْ أَنْقَلِبْ حَتَّى احْتَسَبْتُ بِهِ قَلْبِي
بَلَوْتُ الهَوىَ قَبْلَ الهَوىَ فَوَجَدْتُهُ """ إِسَاراً بِلاَ فَكٍّ سُقَاماً بِلاَ طِبِّ
بِرُوحِي حَبِيبٌ لاَ أُصَرِّحُ بِاسْمِهِ """ وَكُلًّ مُحِبٍّ فَهْوَ يُكْنِ عَنِ الحُبِّ
بَرانِي هَوَاهُ ظَاهِراً بَعْدَ بَاطِنٍ """ فَجِسْمِي بِلاَ رُوحٍ وَقَلْبِي بِلاَ لُبِّ
بِحُبِّكَ هَلْ لِي فِي لِقَائِكَ مَطْمَعٌ """ فَإِنِّيَ مِنْ كَرْبٍ عَلَيْكَ إلى كَرْبِ
بِكُلِّ طَرِيقٍ لي إِلَيْكِ مَنِيَّةٌ """ كَأَنِّي مَعَ الأَيّامِ بَعْدَكَ فِي حَرْبِ
بَكَيْتُ فَقَالُوا أَنْتَ بِالحُبِّ بَائِحٌ """ صَمَتُّ فَقَالُوا أَنْتَ خُلْوٌ مِنَ الحُبِّ
بَوَارِقُ لاَحَتْ لِلْوِصَالِ فَثَّمَّهَا """ فَيَا بَعْدَ بُعْدٍ قَدْ دَنَا زَمَنُ القُرْبِ
بَقِيتُ وَهَلْ يَبْقَى صَبٌ بهِ لَوْعَةٌ """ تُقَلِّبُهُ الأَشوَاقُ جَنْباً إِلى جَنْبِ
بَلَغْتُ المُنَى مِمَّنْ أُحِبُّ بِحُبِّهِ """ ولاَ بُدْ لِلمَرْبُوبِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّبِّ
....
لم
أعرف الكثير عما يعنيه بشعره ذاك ، و لم أبالي لأعرف على أيه حال . فقط
كنت أبتسم بين الفينة و الأخرى و أصغي السمع إعجابا بما أسمعه ، و ربما
أمسك قلمي و أسجل بيتا أو اثنين على طرف الصفحة بكل حماس و أنا أتساءل : "
أي محبوب هذا الذي يصوغ فيه محبه أبيات شعر بهذا الجمال ؟ " و أتبعها بـ "
آآآخ ،، لو هناك من يكتب لي و من أجلي ولو بيتين من هذا الكلام !! "
يبدأ
المريد إنشاده على وقع موسيقى " روحية " بإيقاعات شرق آسيوية .. و أعود
أنا إلى لا مبالاتي و حل ما تبقى لي من فروض منزلية لذاك اليوم إلى أن
ينتهي البث الإذاعي لبرنامج " الموسيقى و السماع الصوفي عبر العالم " .
هذا
كل ما كنت أعرفه عن الصوفية و أنا في الثانية عشر عاما من عمري ، أنه "
شيء " يتلى فيه الكثير من الشعر الذي يتحدث عن الحب و العشق و الهوى و
أشياء أخرى مشابهة ، و أحيانا تُدرج أسماء الله جل جلاله وسط كل ما سبق
لأسباب لم أكن أستوعبها آن ذاك .
فيما
بعد ، عرفت بضع أمور عن الصوفية ، و علمت أن التصوف عريق في وطني و جذوره
تعود لزمن بعيد . قرأت عن الدور الذي لعبه هؤلاء المتصوفة في نشر الدين
الإسلامي و العلم و التأسيس لقيم نبيلة في المجتمع ، و عن الأدوار
الطلائعية التي لعبتها الزوايا في محاربة الاستعمار و توحيد صفوف الشعب خلف
السلطان .
هكذا كان الوضع فيما مضى ، و شتان بين الأمس و اليوم !
اليوم يكفي أن تقف عند أول كشك صحف يصادفك على الطريق ، و تأخذ نظرة سريعة على عناوين الصحف حتى تقع في حيرة من أمرك ..
فبين
من يبجل التصوف و الصوفية و تاريخهم الحافل في هذا البلد ، و يُصر على أن
لا خوف من التصوف لأنه عامل مهم لارتباط المغاربة بقيم دينهم ، و أن هذا
المذهب الوسطي المعتدل هو النموذج المقبول و المساعد على انتشار الإسلام في
الغرب ، و خير دليل بحسب زعمهم ، هو عدد معتنقي الإسلام من الغربيين وفق
طريقة صوفية ما .
و
بين طرف ثاني يكذب كل ما سبق و ينظر له بعين الاحتقار و الريبة بدعوى أن
تعدد الطرق الصوفية هذه مثلا ، له آثار سلبية جدا على وحدة المغاربة
الإسلامية ، و أن الصوفيين بمبالغتهم في تقديس " الشيخ " و الاعتماد عليه
في ما يسمونه بالزاد الإيماني و المراقبة و المشارطة كانوا أصل البلاء و
من فتح الباب أمام التشيع في المغرب .. بل و يذهبون لاتهامهم بالتسبب في
إخراج الناس عن الملة .
بين
هؤلاء و ألائك ، يقف طرف ثالث مدعيا الوسطية و مطالبا الجميع بالعقلانية و
وجوب التفريق بين التصوف كمذهب في الإسلام و ما أدخل عليه من شعوذة و
سلوكيات غير صحيحة ، و مستخلصا أن ليست هناك أي تحفظات " جوهرية " على
التصوف كمذهب و إنما فقط على بعض شعائره .
غير
بعيد عن كل هؤلاء و تحليلاتهم الدينية للمد الصوفي في المغرب ، يقف آخرون
للنظر لهذه القضية من زاوية سياسية خالصة . و مُختصر القول عندهم ، هو أن
القصة تدور حول إعادة هيكلة تقوم بها الدولة للحقل الديني في المغرب !
أما
تفاصيل القصة فتتحدث عن دعم مادي و إعلامي سخي جدا و غير مسبوق للزوايا
الصوفية و مشايخها و مواسمها الاحتفالية ، بل أن الدعم قد وصل لحد تعيين
وزير متصوف على رأس وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية . و الهدف بحسب زعمهم
هو محاصرة الإسلام السياسي و صد المد السلفي و الفكر الإخواني ، و ربما
تكون هذه التزكية المحمومة للتصوف بحسب رأيهم ، محاولة أخرى لإبعاد الناس
عن الانشغال بالشأن العام للبلد و إقناعهم " بالزهد " فيه!
فبالعودة
للتصوف – يقول هؤلاء - تقدم دعوة صريحة إلى تعطيل ملكة العقل و التفكير،
و تعويضهما بطقوس بالية تكرس ثقافة التقليد و الخرافة و الخنوع و الخضوع ،
و تقييد ممارسة النقد و الاعتراض التي بدونها لا تستقيم أي ديمقراطية
بدعوى أن " من اعترض امترض " وفق المنطق الصوفي ..
تتعدد وجهات النظر حول الموضوع ، و كلما تعددت زادت حيرة المواطن المغربي حول سر ما يحدث في وطنه .
أحقا الصوفية مذهب اسلامي " صالح " ، أم أن هناك تحفظات عليه ؟ و ما هي ؟
صوفية
، سلفية ، اخوان ، يسارية ، علمنة .. كيف تظهر هذه التيارات و تتصارع و من
أجل ماذا و كيف تعود للتواري ، و هل حقا للدولة يد في كل هذا ؟
" المريد كالميت بين يدي غاسله " ، أيعقل أن هذا ما تطلبه منا الدولة اليوم كمواطنين ؟
*الابيات الشعرية المدرجة لـ عفيف الدين التلمساني